مخالفة أوامر المحكمة
من أمن العقوبة أساء الأدب ..
بقلم : أبو عبيدة حسن محمود
ما حدث في الجلسة المحددة بتاريخ 2020/12/4م لمحاكمة المتهمين بقتل الشهيد العميد بريمة، أمر لا يخطر في بال القانونيين، إلا في خانة واحدة يسمح بها التكييف القانوني: (ازدراء أوامر المحكمة.)
ملخص الوقائع هو أن السيد قاضي المحكمة الموقر، قد أصدر أوامر، استجابة لطلبات قدمتها هيئة الدفاع عن المتهمين الأول و الثاني و الثالث في البلاغ بالرقم (2021/94)، تقضي الأوامر بعدم تقييد المتهمين بالأصفاد، و نقل المتهم الأول من الزنزانات الغربية بسجن كوبر، حيث يقبع المدانون بأحكام الإعدام، إلى الزنزانات الشرقية ..
و في الجلسة المحددة بالتاريخ المذكور، تم إحضار المتهم الأول محمد آدم (توباك) و هو مقيد بالأصفاد الحديدية في قدميه، و آثار الضرب العنيف بادية على وجهه ..
بدأت الجلسة بحسب ما هو مقرر لها، حيث واصل المتحري تلاوة يومية التحري، و عندما طلب القاضي من المتهمين الاقتراب من المنصة ليتمكنوا من سماع المتحري، اكتشف أن المتهم الأول يرسف في أغلال وضعتها الشرطة عامدة متعمدة ..
قام القاضي بإيقاف الجلسة، و بسؤال رجال الشرطة المختصين، فقد تمت إفادة المحكمة أن الشرطي المختص (نسي) المفتاح في سجن كوبر !!
حينها قام القاضي بإيقاف إجراءات المحاكمة، و ذلك لحين اتخاذ إجراءات قانونية تقدرها المحكمة . كما أمرت المحكمة بعرض المتهم الأول على الكشف الطبي .. حيث أفاد المتهم أن نزيلا جديدا قام بالاعتداء عليه من الخلف، أثناء توجهه إلى الحمام استعدادا لحضور الجلسة، بدون سابق معرفة و بلا أسباب ..
لا أجد نفسي على خلاف مع الإجراء الذي اتخذته المحكمة الموقرة، و قاضيها الموقر .. بل إني أرى فيه سلوكا مهنيا عاليا، و مقدرا ؛ فالقاعدة الذهبية هي ألا يقضي القاضي و هو غضبان ..
و قد أحسن السيد القاضي فعلا - في تقديري المتواضع - ذلك أن مخالفة القانون، يجب إزالتها و التعامل معها بمقتضى الإجراءات القانونية السليمة Due Process of Law
و إن الحكم بعد التثبت و تحديد المسؤول عن الخطأ، و محاسبة كل من تورط في مخالفة أوامر المحكمة، خيرٌ من الحكم المبني على غضبة ٍ مُضَرية ربما نفّس القاضي فيها عن غضبه الشديد الناتج عن إهانة أوامره و الازدراء بمحكمته، و هي محكمة قاضي المحكمة العامة، الذي يمنحه القانون سلطة تفتيش الحراسات و السجون، و على كل حال، فإطاعة أمر المحكمة واجب على رجال الشرطة مهما كانت درجتها، و مهما كان أمرها .
إن ما قامت به الشرطة من مخالفة أوامر المحكمة، يرقى إلى جرائم عديدة .
فمن ناحية مباشرة، فهو مخالفة لأمر محكمة، و نفاذ الأوامر القضائية من بديهيات العمل القانوني، نزولا على القواعد العامة للعدالة و حكم القانون . إن مخالفة أمر المحكمة جريمة خطيرة، فهي تتضمن إهانة القضاء، و تحقيره، و تحدي أحكامه. و بمفهوم أشمل فإن مخالفة أوامر المحكمة تعد جريمة ازدراء بالمحكمة و بالعدالة ..
من ناحية أخرى فمخالفة أوامر المحكمة، تعد ارتكابا لجريمة إنكار العدالة .. و هي جريمة لا يرتكبها إلا الموظف العام، حيث لا يمكن وقوعها من محام أو مواطن، بل يتطلب قيام الركن المادي فيها أن يقوم موظف عام بإنكار صريح القانون مخالفا بذلك المسلك الذي يوجب القانون اتباعه ..
و من حيث الإسناد الشرعي، فإن ما قامت به الشرطة يعد مخالفة للمادتين (90/89) من القانون، كما يخالف مبادئ قانون الإجراءات الجنائية، و التي أوجبت مراعاة الرفق كلما تيسر في إجراءات الضبط .. و في الوقائع المطروحة، فقد أصبح معيار الرفق قضائيا بموجب أمر محكمة، لا وفق تقدير الشرطة ..
لم تصغ الشرطة إلى أوامر المحكمة، و قامت بتحديها على نحو فج و صريح .. بل إنها قامت بإحضار متهم مقيد، دون إحضار مفتاح قيده و تحريره كما أمرت المحكمة، متحججة بأن المفتاح عند النجار !!
إن ما قام به رجال الشرطة يعبر بوضوح عن أزمة تطبيق القانون في بلادنا. حيث نجحت الدولة البوليسية في وأد العدالة و إحراق جثمانها، و تم تسليع مسخ العدالة الذي منحته الدولة البوليسية، وفقا لمعايير العرض و الطلب، فانهارت القيم المهنية في مؤسسات العدالة، و الحديث في ذلك ذو شجون ..
إن ما حدث في هذه الجلسة، يوضح بجلاء لا غموض فيه، مدى بُعد سلوك رجال إنفاذ القانون عن المهنية، و بعدهم عن تطبيق القانون، و عن حكم القانون و روحه ..
ما هي الرسالة التي قصد مرتكبو هذه الجريمة (أعني جريمة مخالفة أوامر المحكمة) أن يتحفوا العالم بها ؟
ما هي الفوائد التي يمكن قراءتها من ثنايا هذا السلوك الإجرامي، على ضوء وصفنا للجريمة و الجرائم الناشئة عنها ؟
لقد أضر تسييس الشرطة و النيابة العامة و القضاء، أيّما ضرر بالعدالة .. و قد ظن من زرعوه سنين عددا أنهم يحسنون صنعا، و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، و ظنوا أن لن يقدر عليهم أحد .. و ما كان نتاج الشوك الذي زرعوه ثلاثين سنة حسوما، إلا وبالاً حاق بالوطن و بالدولة و بالعدالة ..
إنك لا تجني من الشوك العنب ..
0 تعليقات